حوار مع أستاذي المؤمن الفصل الأول

السؤال الأول .. لم يلد ولم يولد

فى كتابه “رحلتى من الشك إلى الإيمان” يقول الدكتور مصطفى محمود أنه بدأ فى التساؤل فى سن مبكرة – وكان من أسئلته أن لم لانقول أن الكون جاء إلى الوجود دون موجد تماماً كما يقول رجل الدين أن الله ليس بحاجة إلى موجد أو خالق فهو الخالق الأول وليس قبله شىء .. وسؤال الدكتور مصطفى محمود لهو سؤال ينم عن ذكاء نادر ومبكر – فهو سؤال فى محله تماماً – وللأسف الشديد فإن الدكتور الكبير بعد أن مضى فى رحلته ما قارب الأربعين عاماً – عاد وقرر أن ما قاله رجل الدين هو الصواب – واقتنع بفكرة الموجد الذى لايحتاج إلى موجد – وفرض على نفسه وعلى قراءه وتابعى فكره فكرة “الإله” – أو على وجه التحديد: الخالق الذى نظراً لكونه “خالقاً” فهو إذن لايحتاج إلى خالق آخر ولا يمكن أن نجعل منه مخلوقاً .. وهذا مثله مثل لاعب الكرة الذى يلقى بالكرة خارج الملعب – أو كالعالم الدؤوب الذى بعد أن فكك أجزاء جهاز ما إذا به يقرر أن هذا الجهاز إنما يعمل نظراً لأن كائناً خارقاً خفياً قد قرر له أن يعمل وليس بسبب أن كل قطعة ودائرة كهربية وسلك قد وضعت فى مكانها الصحيح ..

وبالطبع تتسائل إذن: ومن وضع كل قطعة فى مكانها الصحيح فى هذا الكون؟

والإجابة على هذا السؤال ليست بالبساطة التى تضع بها أنت قاعدتك التى لاتقبل النقاش وتقول: “الإله” – أو الخالق الذى لايحتاج إلى خالق .. أو على وجه التحديد: الكائن الخارق الخفى أو المصمم الواع الذكى الذى خلق كل شئ لغرض محدد أو لحكمة ما بعينها . . إن الإجابة على ذلك السؤال تحتاج إلى التفكير العميق المتأنى .. وفى معرض تلك الرحلة نضع فروضاً واحتمالات – نقبل ما كان منها منطقياً ونرفض ما تعارض مع المنطق .. أما أن تقول لى أن الله هو فوق المنطق فبذلك تكون قد أغلقت أى باب لمحاولة الفهم – ووضعت بدلاً من المنطق “دوجما” لاسبيل لمعالجتها ..

ومن المؤسف أن الدكتور مصطفى محمود إنما يحاول أن يضع لنا منطقاً فلسفياً ينتهى باعترافنا بالإله) أو بالخالق الواع الذكى الذى لايحتاج بدوره إلى خالق( – إلا أنه فى معرض حديثه ذلك يلقى بالمنطق تماماً إلى صفيحة النفايات ويقول أن الله لايخضع إلى منطق ..

وهذا يعود بنا إلى سؤاله الأول – وهو فى الحقيقة سؤال عبقرى، وسأعيد أنا صياغته كالآتى: ما حاجتنا إلى خالق ليس له خالق – إذ أن بنفس ذلك المنطق يمكننا القول بكونٍ أتى إلى الوجود دون الحاجة إلى موجد؟

ولى أن أجيب على هذا السؤال بأن أقول أن احتياجنا إلى خالق هو احتياج عقلنا البشرى لأن يتصور كائناً أقرب ما يكون إلى طبيعتنا نحن لكى نفهمه ..

ففى رحلة العقل البشرى لفك طلاسم هذا الكون – إذا به يتخيل ذلك الموجد وكأنه رجل قوى – له يد ورأس وعقل – وهو يسمع (فأنت تدعوه وتنتظر منه الإجابة) – ورجل الدين يصر على أن هذا الكائن إنما سيجيبك حتماً – وإن لم يجب فهو يعلم أين الخير لك ..

وهو أيضاً يتكلم – فقد كلم الأنبياء ..

وهو يصلى – تماماً كما نصلى نحن – فقد صعد نبى الإسلام إلى السماء السابعة واضطر إلى الانتظار حتى يفرغ الله من صلاته – تماماً كما يفعل مديرى المصالح الكبرى فى عالمنا هذا ..

ثم هو يغضب .. وتعجب كيف يغضب ويدمر قرية وهى لم تفعل أكثر مما قدره هو نفسه لأهلها ..

وهو ينتقم ..

وهو يجلس على العرش شأنه شأن الملوك من البشر ..

وفى التوراة يندم الله على فعله ..

ويخرج على يعقوب ويصارعه ويبادله اللكمات .. 

إذن فهو رجل – ذكر – ذا قوة خارقة ..

ونحن فى فهمنا لهذا الموجد إنما نوظف له خصائصاً إنسانية، فنعطيه يداً وعيناً وأذناً ولساناً – ونعطيه صفاتاً بشرية كالرحمة والعدل والضرر والانتقام .. وكل قبيلة أو جماعة من البشر عرفت إلهاً اختلف أو تشابه مع إله القبيلة الأخرى، فلكل جماعة من البشر تقاليدها وأعرافها الخاصة التى من شأنها أن تنتج آلهة تتفق وهذه الأعراف ومع ماتحويه أو تمليه عليهم هذه البيئة – فمثلاً إله قبيلة الكيكويو (نجاى) الرحيم المحب للسلام لاشك يختلف عن إله الفايكنج (أودين) المحارب العنيف الجبار – وإله السومريين (إنليل) القاسى الذى يرسل الأعاصير لهو بالضرورة يختلف تمام الاختلاف عن (جوان – ين) إلهة الحب الصينية العطوف .. وألوف مؤلفة من الآلهة التى تعددت بحكم تعدد البيئات والعادات – فالبيئة الصحراوية القاسية أنجبت آلهة غليظة الطباع مثل بعل ويهوه وبعلزبول والله – وهى آلهة تعذب وتحرق غير المؤمنين بها – أما الطبيعة الخضراء الحانية فقد أنجبت آلهة هادئة الطباع محبة للسلام مثل الإلهة “أبوك” المعطاءة التى طورها أبناء قبائل الدنكا جنوب السودان ..

إن عدد الآلهة التى طورها الجنس البشرى منذ التاريخ المكتوب يقدر بحوالى ٤٠٠٠ إله – هذه الآلهة هى نتاج كل بيئة وكل منطقة جغرافية وكل شعب – فمثلاً الإله “Nanook” هو إله الدببة القطبية لدى الإسكيمو – وهو بالطبع يختلف عن Ngai”” إله الكيكويو مثلاً وهو ما يعرفه أبناء هذه القبيلة على أنه “من يملك النعام – Owner of the ostrich” .. إذ لانعام فى القطب الشمالى ولادببة قطبية فى كينيا – وإله الكيكويو بدوره يختلف عن الإله “Garuda” لدى الهندوس والبوذيين – بل إن هذا الإله “Garuda” نفسه يختلف لدى أبناء أندونسيا عما يؤمن به أبناء الهند رغم أن الأسطورة أصلها واحد .. فلدى الهندوس هو كائن نصفه طائر ونصفه إنسان، بينما يعطيه أبناء جزيرة “جاوة” الأندونيسية صفات طائرهم هم المعروف بصقر “جاوة” ..

وأيضاً نظر الإنسان القديم إلى الجبال العالية وتصور آلهة تسكنها، فمثلاً إله الرومان “ڤولكان” يسكن جبل إتنا بجزيرة صقلية – وإله الهندوس “شيڤا” يسكن جبل “كيلاش” فى منطقة التبت شمال الهند، وفى اليهودية يسكن يهوه جبل سيناء، وإله الكيكويو يسكن جبل كينيا، والإلهة “Konohanasakuya-hime” أميرة رحيق الزهور اليابانية تسكن جبل فوجى فى اليابان، وآلهة اليونان تسكن جبال الأوليمبس – وبالطبع فإن ذلك سببه هو البيئة وما تمليه على أبنائها – فمثلاً من غير المعقول أن يطور أبناء اليابان إلهاً يسكن هضبة كولورادو بأمريكا مثلاً أو فى غابات الكونغو – أو أن يطور الأيرلندين إلهاً يسكن غابات الأمازون مثلاً أو نيويورك! أليس كذلك؟

ولذلك فأنا أنكر وجود كل هذه الماهيات – فهى لاتعدو إلا أن تكون أفكاراً ومحاولات للبشر لتفسير ظواهر الطبيعة كما رأوها وكما تأثروا بها، وهى صناعة بشرية بحتة لامراء – فإن نحن افترضنا أن الإله الصحيح هو أحد هؤلاء فهذا معناه أن المرء قد يموت وإذا به يحاسب أمام إله لم يسمع عنه قط هو أحد هؤلاء الآلهة الـ ٤٠٠٠ الذين طورهم البشر عبر الأزمان .. فمثلاً أنا لاأعتقد أن أبناء العقيدة الزرادشتية فى شرق إيران على سبيل المثال يمكنهم تصور أنهم إذا مابعثوا إذا بهم يحاسبون أمام (أكان) إله الخمر لدى قبائل المايا – أو أن يصعد أحد أبناء الغال المؤمنين بالإله “تارانيس” إله الرعد ليجد نفسه أمام الإله “موكوى” آكل الأطفال أحد آلهة سكان أستراليا الأصليين .. ولذلك فكتابى هذا لايعنى بأى من هذه الآلهة – وانما يعنى بمحرك أول – أو موجد أول – وهو أمر يستحيل فى اعتقادى تعريفه، إلا أننى قد اتخذت قراراً أمام نفسى وهو أن أضع أمامى كل الإمكانيات وكل الحجج – علها أقنعتنى بشىء – أو عكس هذا الشىء – ورغم علمى باستحالة إدراك الحقيقة المطلقة – إلا أن رحلة الفكر تستحق كل العناء

الزمبلك

ويستطرد مصطفى محمود قائلاً: “وأنت بهذه السفسطة أشبه بالعرائس التى تتحرك بزمبلك .. وتتصور أن الإنسان الذى صنعها لابد هو الآخر يتحرك بزمبلك .. فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه .. قالت: مستحيل أن يتحرك شىء من تلقاء نفسه .. إنى أرى فى عالمى كل شىء يتحرك بزمبلك .. وأنت بالمثل لاتتصور أن الله موجود بذاته بدون موجد .. لمجرد أنك ترى كل شىء حولك فى حاجة إلى موجد .. وأنت كمن يظن أن الله محتاج إلى براشوت لينزل على البشر ومحتاج إلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه .. سبحانه وتعالى عن هذه الأوصاف علواً كبيراً”

حسناً ياأستاذى الكبير ..

حينما تحدثنى عن عرائس بزمبلك لايمكنها فهم إنسان لايتحرك بزمبلك فأنا أتفهم هذه الأطروحة على الرغم من عدم معقوليتها بالطبع، فلا نحن نحدث العرائس ولا العرائس تسمعنا، ولكننى لازلت أتفهم مقصدك .. وتعليقى أنا على كلامك ذلك هو أننا كبشر لنا أيضاً زمبلك ولكن من نوع مختلف، ذلك هو العقل وإلى جواره آلاف وملايين الأعصاب والخلايا والأعضاء التى تمكننا نحن البشر من الحركة والحياة .. ولذلك فأنت عندما تقول أن الإنسان يتحرك “من تلقاء نفسه” فهذا غير صحيح، فكما أن للعرائس زمبلك فإن لنا أيضاً “زمبلكاً” ولكن من نوع أكثر تعقيداً ..

إذن فنحن أيضاً كالعرائس الزمبلك، نتحرك بزمبلك فائق التعقيد – ولما لم يكن بإمكاننا أن نتصور كائناً خارقاً لايتحرك بزمبلك مثلنا، فما كان منا إلا أن أعطيناه “زمبلكاً” مشابهاً لما نحمله نحن فوق رؤوسنا وهو العقل .. فنحن ننسب له صفات التدبير والعلم والعدل – ونطلق عليه أسماءاً مثل (الحسيب) و(الخبير) و(الحكيم) و(الحق) و(الحكم)، وكلها بالطبع صفات بشرية يمكن فهمها وهى جميعها مردودة إلى العقل البشرى المفكر المدبر الخ .. فبنفس المنطق الذى يقول بعدم إمكانية العرائس التى تعمل بالزمبلك إلا أن تتخيل خالقاً على شاكلتها يعمل بالزمبلك، أيضاً لم يكن بوسع الإنسان الذى له عين ويد وعقل وغاية وبصيرة وحكمة إلا أن يتصور صانعه تماماً على نفس تلك الشاكلة ..

ولى هنا أن أقول أن المنزلق الذى يقع فيه مصطفى محمود هنا هو ما يعرف فى العلوم الإنسانية بإسم “التأنيس”، أو بلغة عربية أدق “الأنسنة”، وتعريف الأنسنة ببساطة هو إعطاء صفات إنسانية لما هو ليس بإنسان .. وليسمح لى القارىء هنا بأن أشير سريعاً إلى قصة سمعتها من مدرسة بإحدى مدارس أستراليا وذلك لكى نتفهم معاً قضية الأنسنة هذه .. والقصة هى أن إحدى المدرسات طلبت من تلاميذها رسم كائن خارجى أو (فضائى) أو ما يعرف بالإنجليزية بإسم (alien)، وكان ذلك فى معرض دراستهم لقصص الخيال العلمى .. وشرع التلاميذ فى الرسم وكانت النتيجة أن جميعهم بلا استثناء رسموا كائنات شديدة الشبه بالإنسان المذكر، على وجه التحديد .. ونظرت المدرسة إلى الرسومات وإذا بكائنات ذات أعين وأرجل وأيد ورؤوس، وكان ذلك ماتوقعته المدرسة فهى تدرك مدى صعوبة تصور كائن آخر، خارجى، لايحوى هذه الصفات .. وكان منها أن طلبت من التلاميذ إعادة المحاولة على أن يضعوا فى الاعتبار أن النتيجة النهائية لما يرسمون لابد ألا تتشابه مع الجنس البشرى فى أى شىء .. وهنا بدأ التلاميذ فى إدراك صعوبة ما أسندته إليهم المدرسة، وظل التلاميذ فى محاولاتهم للرسم إلا أنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا تماماً من إضافة هذه الصفات الإنسانية للكائنات التى يرسمونها .. فإن هم تخلصوا من اليد أضافوا عيناً، وإن تخلصوا من العين أضافوا أذناً .. لم يفكر أحدهم فى أن يرسم موجة مغناطيسية مثلاً، أو عدة نقاط مبعثرة، أو ثلاثة خطوط متشابكة أو شبه متوازية (وكلها لازالت أشكال مستوحاة من عالمنا هذا بالمناسبة) .. لم يفكر أحدهم أن يترك الورقة فارغة تماماً، ولنا أن نتخيل ماتحويه هذه الورقة – أو ما لاتحويه! هذه هى قضية الأنسنة، أو ما يطلق عليه بالإنجليزية (Anthropomorphism) .. فمثلاً نظر الإنسان القديم إلى القمر وتخيل وجوهاً وأناساً وبشراً .. ففى اليابان مثلا وكثير من ثقافات شرق آسيا رأى الانسان القديم أرنباً على سطح القمر فى يده مدقة وهاون يطحن فيه مكونات كعكة الأرز .. وكثير من الثقافات الأوروبية ترى وجه إنسان، أو رجلاً يحمل حزمة من العصى، وفى إنجلترا تخيل قدامى الإنجليز ساحرة تحمل خشباً على ظهرها، وفى هاواى رأى الإنسان القديم فى سطح القمر شجرة البانيان (التين البنغالى) التى تنسج منها الإلهة “هينا” ملابس الآلهة .. ويرى السكان الأصليين لنيوزيلندا إمرأة ترعى شجرة “النجايو” والتى هى موطنها الأصلى نيوزيلندا، ويؤمن بعض الشيعة أن اسم على بن أبى طالب مكتوب على القمر ..

هذه هى الأنسنة .. ذلك أننا كبشر عندما ننظر إلى ذلك الكون المهيب فإنه يصعب علينا قبول نظريات مثل نظرية الانفجار العظيم (the big bang) أو النظرية الأخرى المقابلة لذلك والتى تقول بسرمدية الكون بدون أن نتصور كائناً آخراً على شاكلتنا لنضعه فوق ذلك الكون، أو قبل الانفجار العظيم أو وراء الكون السرمدى .. وهكذا يرضينا هذا التفسير ويمكّننا ذلك من النوم فى ارتياح فقد خلقنا لأنفسنا كائناً خارقاً على شاكلتنا ينظر إلينا من عل ويعتنى بنا ويعيننا فى أمور حياتنا .. وبذلك نكون قد حللنا المشكلة فى كلمة واحدة، أو كائن واحد، ذلك هو الخالق .. والعجيب هنا أنك تقول باستحالة أن يتكون شىء معقد (وهو الكون) بدون موجد، إلا أنك فى نفس الوقت تصر على وجود شىء أكثر تعقيداً بمكان (وهو الإله) بدون أى موجد ..

هل ترى معى هذا التناقض؟

هذا التناقض سببه هو احتياج عقلنا البشرى لخلق كائن على شاكلتنا لكى نفهمه .. 

إن احتياج الإنسان إلى كائن على شاكلته ليحادثه ويطلب منه العون ويجد فيه الإجابة على ما يحيره هو مفتاح قضية “الأنسنة”، إى إعطاء صفات بشرية لظواهر الطبيعة وقوانين المادة والحياة ولما يحرك الكون .. فمثلاً إله الريح هو عاصفة لها رأس رجل يصدر هوائاً من فمه كإله اليونان “Aeolus”، وإله النار هو حداد مفتول العضلات يطرق الحديد وتحيطه أذرعة اللهب كإله الرومان “Vulcan” – وإله البحار هو أيضاً رجل ضخم الجثة قوى العضلات يركب الأمواج العاتية مثل الإله “Neptune” أو “Poseidon” لدى الإغريق والرومان .. وآلهات الحب مثل فينوس وأفروديت وحتحور وعشتروت وهيرا وغيرهن هن نساء حسناوات لهن شعر مسدول وبشرة ناعمة كالجميلات من البشر .. وإله العهد القديم هو أب مهيب له لحية بيضاء يسحق أعدائه بقوة ذراعه كما تخبرنا مزامير داود – وإله المسلمين نعطيه يداً (والسماوات مطويات بيمينه) وعيناً (ولتصنع على عينى) وصفات إنسانية أخرى كثيرة كالملك والعزة والهيمنة والتكبر والسمع والبصر والتجبر والانتقام .. بل ويتبنى المسلمون نفس كلام اليهود فى توراتهم من أن الله خلق آدم على صورته، فعلى هذا النحو كان إصرار الإنسان على أن يتخيل أن الفاعل أو المحرك وراء هذه القوانين الطبيعية هو إنسان مثله وعلى شاكلته ..

فكما أركل أنا مثلاً سيارتى عقاباً لها إذا ما رفض المحرك أن يدور فى الصباح البارد برغم أنها قطعة من الحديد لاتشعر ولا تعى، أو كما أنظر إلى السحاب وأتخيل وجوهاً وأشجاراً وأناساً، أو كما أداعب القط وأحادثه ظناً منى أنه يفهم لغتى وما أقول، أيضاً نظر الإنسان القديم إلى السماء ومد خطوطاً تربط بين هذه النجوم وتخيل آلهةً وأسوداً وحيات وعقارب وحملان .. هذه النجوم التى ربط الإنسان القديم بينها وأعطاها صفات الحياة ليس لها وجود الآن، بل ولم تكن موجودة وقتها، وما نرى الآن منها ليس سوى ضوئها الذى وصلنا بعد أن انتهى عمرها بملايين السنين .. هذه النجوم لاتقع على مستو فراغى واحد ولا حتى مستو زمنى واحد .. إلا أننا ننظر إليها ونمد بينها خطوطاً ونصنع منها كائنات على شاكلتنا أو مستوحاة من عالمنا يمكننا أن نفهمها، بل ونقدسها ونعبدها ونقرأ فيها الماضى والحاضر والمستقبل .. هذه هى صناعة الإله ..

وبتوالى الأزمنة تطورت فكرة الخالق من آلهة عديدة للنار والماء والرياح والجليد إلى آلهة للحب والجمال والنيل والفيضان والسماء إلى أن بدأ العقل البشرى فى تقليص دور الإله وبدلاً من جعله آلهة متعددة تأتى العقائد الإبراهيمية بعدد محدود من الآلهة (إلوهيم) وعلى رأسها (يهوه) الإله الأكبر – وهى خطوة كبيرة نحو وحدانية الموجد .. ثم تأتى المسيحية وتخطو خطوة أخرى نحو التوحيد وتكتفى بثلاثة من الآلهة بدلاً من (الإلوهيم) وتحاول جاهدة إقناع البشر بأن هؤلاء الثلاثة هم فى حقيقة الأمر إله واحد .. ثم يأتى الإسلام مصراً على فكرة الإله الواحد .. ثم تأتى البوذية وهى فى حقيقتها ديانة بلا إله، وفكر قيم أكن له شخصياً كثير الإحترام، وعلى الرغم من أن بوذا نفسه لم يتحدث عن إله قط – بل وقال أنه لايستطيع تخيل إلهاً لهذا الكون واعتبر نفسه ملحداً، إلا أن بوذا نفسه قد تحول إلى إله فى نظر بعض فئات البوذية – وهو أمر يعكس رغبة الإنسان فى خلق كينونة أو ماهية مقدسة يعود إليها ويكبرها ..

وتأتى الديانة البهائية وتخطو خطوة أخرى نحو الوحدانية بل والتوحيد التام فتنادى بتوحيد كل الديانات وجعلها كلها ديانة واحدة وإلهاً واحداً لجميع البشر وليست آلهة متعددة تعدد الديانات المختلفة – ثم يتطور العقل وتتقلص فكرة الإله إلى ما يسمى الآن بـ (التصميم الذكى) – أو مايعرف بالإنجليزية باسم (Intelligent Design) .. فمن آلهة على شكل الثيران والأبقار والعجول والقطط واليونيكورن إلى آلهة على شكل رجال بلحى مكفهرى السحنة كأودين وثور وخلافه إلى إلاهات حسناوات على شكل إناث فاتنات كأفروديت وڤينوس إلى شيڤا وراما وآلهة كثيرة الأذرع إلى صورة رجل قوى ذا لحية بيضاء مهيبة يصارع يعقوب ويضربه فى حق فخذه كما يخبرنا سفر التكوين إلى حمامة ومسيح يصلب بأمر من أبيه فى السماء إلى تنزيه أقرب إلى العدم فى إله الإسلام إلى لاإله بالمرة فى الديانة البوذية أو (ألوهية الإنسان نفسه) إلى أن وصلنا أخيراً إلى ما يسمى بـ (التصميم الذكى) .. وهو اختزال لكل ذلك ولكل الماهيات المحسوسة التى يمكن للإنسان تخيلها لاحتوائها على صفات بشرية (أو حتى حيوانية) ووصلنا إلى التصميم الذكى .. وبذلك تكون فكرة الإله قد تقلصت تماماً عبر الأزمان إلى أن طور العقل فكرة مجرد (الذكاء) .. ولن يمر وقت طويل حتى نكتشف أيضاً أن الذكاء لهو صفة إنسانية – بشرية – شأنها شأن السمع والبصر والكلام .. وكل ما فعلناه هو أن أعطيناها للكون فنصبنا عليه كائناً خارقاً، خفياً، وذكياً بالطبع ..

إن العقل لازال يقلص من فكرة الإله إلى أن جعل منها فكرة تخيلية ونزع ولا زال ينزع عنها الكثير من الصفات المادية التى ألصقها الإنسان به عبر الأزمان – وصارت فكرة الإله الآن مجرد “intelligence” أى مجرد “ذكاء” أو “وعى” – ولكننا لانزال نحتاج إلى تلك “الأنسنة” لكى نتمكن من فهم الكون والتعامل معه .. فنحن لايرضينا أن ننظر إلى الكون لنجد جماداً بارداً غير عابىء بنا .. لذلك خلقنا ماهية أو كينونة على شاكلتنا لنتمكن من التعامل معها – ثم أعطيناها صفات الخلق والقدسية، ثم سجدنا لها بل وذهب البعض إلى قتل من لايؤمن بها ..

إن الذكاء والوعى والإدراك هى كلها مفاهيم بشرية وأسماء نطلقها على القوانين الطبيعية التى تحكم تصرفاتنا وتحركاتنا ووظائفنا فى هذا الكون .. إن ما نسميه نحن “وعياً” هو مجموعة القوانين الطبيعية التى نتحرك ونعيش ونتفاعل مع الكون بمقتضاها .. ونحن حينما ننظر إلى الكون أو إلى نظرية الانفجار العظيم أو نظرية سرمدية الكون لنجد مادة بلا حياة كما نفهمها نحن وأيضاً بلا وعى وبلا عين وأذن وأذرع ودماغ، فإننا عندئذ نفرض على ذلك الكون البارد عقلاً كعقل البشر، وفكراً كفكر البشر، ورأس مدبر وحكمة ووعى وإدراك ومنطق ودراية وباعث .. وفى معرض ذلك نجد أنفسنا وقد خلقنا كائناً أعقد بمكان من الكون الذى نحاول تفسيره وفسرناه بما هو أعقد منه .. وبالمثل فإننا عندما ننظر إلى دورة الحياة وحركة الكائن الحى ودوران السيتوبلازم فى الخلية فإننا نفعل نفس الشىء، وننسب ذلك كله إلى كائن خفى على شاكلتنا إلا أنه ذا إمكانيات خارقة مهمته تدوير السيتوبلازم فى الخلايا وتحريك جناحى الطائر ودفع الدم فى عروق الكائن الحى .. هذا هو التفسير السهل المريح .. أما الصعب فهو أن تعكف على الميكروسكوب وأنبوبة الإختبار وتنتهج منهجاً علمياً تحليلياً تجريبياً دؤوباً إلى أن تبدأ فى تفهم ذلك المحرك الأول .. كيف يتحرك السيتوبلازم؟ ماهو تركيب النواة؟ ماذا يحرك القلب؟وكيف يحلق الطائر؟ إن هذه كلها أسئلة يجيب العلم عليها شيئاً فشيئاً، وإن لم نفهم شيئاً اليوم فلعلنا فهمناه غداً، أو بعد غد، إلا أن عدم فهم أى شىء لاينبغى أبداً أن يكون سبباً فى أن نتوقف عن العمل ومحاولة الفهم ..

  • ● ● ● ●

وحينما يقول مصطفى محمود أن الله لايحتاج إلى براشوت لينزل على البشر أو إلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه – فأنا هنا أقول أن الإنسان هو الذى بحاجة لأن يتخذ الله لنفسه مواصلة بشرية، طبيعية، لكى يتمكن ذلك الإنسان من محادثته وإدراكه .. وهنا التناقض، فأنت تقول بأن الله فوق الطبيعة، حسناً، كيف استطاع محمد سماعه وهو فوق الطبيعة؟ وماهو دليل محمد وآخرين على محادثة ذلك الكائن الخارق؟

أنت تقول أن الله فوق الطبيعة وفوق الزمان والمكان .. كيف إذن تعطيه صفاتاً طبيعية وتجعله كائناً على شاكلتنا؟ لماذا تخرجه من الطبيعة حين أسألك عن كينونته ثم تدخله ثانية عندما تحدثنى عن تواصله مع البشر؟

عمانويل كانت

ويقول مصطفى محمود: “وعمانويل كانت الفيلسوف الألمانى أدرك أن العقل لايستطيع أن يحيط بكنه الأشياء وأنه مُهيّأ بطبيعته لإدراك الجزئيات والظواهر فقط .. فى حين أنه عاجز عن إدراك الماهيات المجردة مثل الوجود الإلهى .. وإنما عرفنا الله بالضمير وليس بالعقل .. شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجود العادل .. كما أن ظمأنا إلى الماء هو دليلنا على وجود الماء” ..

ولى هنا سؤال للسيد “عمانويل كانت” الألمانى .. أنت تقول أن شوقنا إلى العدل هو الدليل على وجود العادل، حسناً، وماذا عن تعطشنا للجنس، هل ذلك دليل على وجود الشبق الأكبر، وهو الإله؟ وماذا عن تعطش البعض للقتل، هل ذلك دليل على وجود القاتل الأكبر، وهو الإله؟ وماذا عن توقنا للطعام، أهذا دليل على وجود الشره الأكبر، وهو الإله؟

سؤال مطلوب من السيد “كانت” الإجابة عليه ..

أرسطو

ويستكمل مصطفى محمود: “أما أرسطو فقد استطرد فى تسلسل الأسباب قائلاً: إن الكرسى من الخشب والخشب من الشجرة .. والشجرة من البذرة .. والبذرة من الزارع .. واضطر إلى القول بأن هذا الاستطراد المتسلسل فى الزمن اللانهائى لابد أن ينتهى بنا فى البدء الأول إلى سبب فى غير حاجة إلى سبب .. سبب أول أو محرك أول فى غير حاجة إلى من يحركه .. خالق فى غير حاجة إلى خالق .. وهو نفس ما نقوله عن الله ..”

حسناً ..

وصحيح أن أرسطو “اضطر إلى القول” بأن هناك محركاً أول، إلا أننا لاينبغى أن ننتزع جملة واحدة من الكلام للتدليل على ما نقول دون أن نقرأ باقى ما قاله .. فطبقاً لأرسطو فإن ذلك المحرك الأول هو ثابت تمام الثبات ولايطرأ عليه أى تغيير، وهو لايؤثر فى شىء ولا يؤثر فيه شىء ولا يفعل شيئاً سوى التأمل .. ونظراً لأنه لايتغير ولا يؤثر فى أى شىء فإنه أيضاً لايمكن أن يفكر فى أى شىء من شأنه أن يغير من أى شىء، لذلك فإن ذلك المحرك الأول لايفكر فى أى شىء سوى فى نفسه، ولذلك أيضاً فهو لاعلم له مطلقاً بأى شىء آخر سوى بنفسه .. هذا هو المحرك الأول فى نظر أرسطو .. وهو لاشك يختلف تماماً عن المعنى الدينى للإله ..

والواقع أن أرسطو قد آمن بنظرية نشوء الكون المعروفة الآن باسم (نظرية الحالة الثابتة – Steady State theory) .. وهى النظرية التى تقول بكون سرمدى لابداية له ولا نهاية، وهى النظرية المقابلة للنظرية المعروفة بإسم نظرية الانفجار العظيم (Big Bang theory)، فمنذ فجر التاريخ عكف علماء الطبيعة والكيمياء والرياضيات وعظام الفلاسفة على محاولة تفسير منشأ الكون ولدينا الآن عدد من النظريات التى تطرح تفسيراً لذلك .. فبالإضافة لهاتين النظريتين هناك نظريات أخرى مثل نظرية الوجود متعدد الأكوان “Multiverse theory” وهى التى تقول بعدد لانهائى من الأكوان يأتى إلى الوجود كل لحظة كالرغوة أو الزبَد على الماء فى قدر يغلى على سبيل المثال، وكل فقاعة (أو كل كون يأتى إلى الوجود) له قوانينه الطبيعية الخاصة به، ومن بين ملايين بل وبلايين الأكوان يحدث أن يأتى إلى الوجود كل حين وآخر كون ملائم لأن تنشأ حياة عاقلة عليه – أو ما يتفق مع مفهومنا نحن للحياة – ذلك مثل كوننا هذا الذى نعيش فيه .. وهناك النظرية التى تجمع بين “الانفجار العظيم” و”الحالة الثابتة” وتقول بسرمدية الكون وأبديته إلا أن الانفجار العظيم هو أيضاً حدث يحتويه هذا الكون السرمدى .. وهناك أيضاً الأبحاث التى تجرى فى مجال المادة والمادة المضادة (matter and anti-matter)، والمادة المضادة هى ما يمحو المادة أو الوجود كما نعرفه .. وبالطبع فإن لكل نظرية مؤيديها ومعارضيها، ولازال الجدال قائماً، إلا أن نظرية الانفجار العظيم هى النظرية الأكثر قبولاً فى عصرنا ذلك، وإحدى مشاكل هذه النظرية هى عدم إمكانية القول بما كان “قبل” ذلك الانفجار .. إذ لم يكن هناك “قبل” .. وهو ما يصعب علينا فهمه .. ويشرح العلماء هذه الإشكالية بقولهم أنه لم يكن هناك “زمن” قبل الانفجار العظيم، وأن الزمن كما نفهمه وندركه نحن بدأ مع هذا الانفجار ..

وحينما يقول الدكتور مصطفى محمود أن هذا الاستطراد المتسلسل ينتهى بنا إلى محرك أول فى غير حاجة إلى من يحركه “وهو نفس ما نقوله عن الله”، فهذا كلام أتفهمه إلا أننى أجد فيه كثير من الخلط .. ذلك أنك لاتنسب صفة المحرك الأول فقط لهذا الكائن الذى تسميه بالإله، ولكنك أيضاً تنسب إليه آلاف الصفات الأخرى التى ينفيها عنه أرسطو إلى درجة تجعله تقريباً إنساناً مثلنا، والفرق بينه وبيننا هو أنه خارق لكل القوانين، والصفة الأخرى أنه خفى .. وأيضاً فليس الانفجار العظيم (وهو ما يعتقد فيه معظم العلماء الآن أنه المحرك الأول وليس قبله شىء) هو نفس ما تقوله عن الله، فأنت لاتنسب كل هذه الصفات التى تنسبها لله إلى الانفجار العظيم .. والسبب كما قلت سابقاً هو صعوبة تخيل محرك أول ليس له صفات تماثل أو تتفق مع صفات البشر ..

إن “الله” هو الإجابة السهلة السريعة على أعقد مشاكل الكون .. أما الصعب هو أن تشمر عن ساعديك وتدخل المعمل أو المرصد أو متحف التاريخ الطبيعى أو كهف مجلس الجن أو حفرة نهاية العالم لتسبر أغوار الطبيعة وتنظر كيف بدأ الخلق، وقد تقضى فى ذلك العمر كله، فليست هناك إجابة سهلة على أى سؤال ..

إن السهل هو أن تدير وجهك ناحية الشمس أو القمر أو السماء أو نحو مكة أو إلى بقرة تقدسها وتشرع فى التكبير، أما الصعب فهو أن تُشَرح عجل أبيس أمام من يعبدونه وتظهر لهم أنه عجل كبقية العجول، هذا مافهمته من كلامك ياأستاذى الكبير فى كتابك (إبليس)، وياله من كلام قيم كفصوص الماس ..

وأخيراً أقول إننا حتى إذا ما افترضنا أن أرسطو كان شخصاً مؤمناً، فإن هذا فى الحقيقة لايعنى أى شىء، وكل مايعنيه ذلك هو أن أرسطو كان مؤمناً، فقط هكذا، شأنه شأن ملايين آخرين ..

ابن عربى

يقول مصطفى محمود: “أما ابن عربى فكان رده على سؤال مَن خلق الخالق بأنه سؤال لايرد إلا على عقل فاسد .. فالله هو الذى يبرهن على الوجود ولا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله .. تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار .. ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور .. يقول الله فى حديث قدسى : “أنا يُستدل بى .. أنا لايُستدل علىّ” .. فالله هو الدليل الذى لايحتاج إلى دليل .. لأنه الله الحق الواضح بذاته .. وهو الحجة على كل شىء .. الله ظاهر فى النظام والدقة والجمال والإحكام .. فى ورقة الشجر .. فى ريشة الطاووس .. فى جناح الفراش .. فى عطر الورد .. فى صدح البلبل .. فى ترابط النجوم والكواكب .. فى هذا القصيد السيمفونى الذى اسمه الكون ..”

وردى أنا على ذلك أن السيد ابن عربى، سلطان العارفين، هو فى حقيقة الأمر شخص طويل اللسان ..

إن السيد ابن عربى بكلامه هذا إنما ينعت معظم البشر بصفة فساد العقل .. فما من إنسان إلا ولابد وأن يتوقف للحظة ليسأل نفسه هذا السؤال شديد المنطقية، بما فيهم أنت نفسك ياأستاذى الكبير ..

ولنا أن نتناول حجة السيد ابن عربى بالنقاش حينما يقول أن الله هو الذى يبرهن على الوجود وليس العكس، ويستشهد مصطفى محمود بالحديث القدسى : “أنا يُستدل بى .. أنا لايُستدل علىّ” ..

وأنا هنا أرى أن منطق ابن عربى هو فى الحقيقة منطق معكوس، إذ أن المنطق السليم يقول بأنك مثلاً إذا نظرت إلى بحيرة لقلت بإمكانية وجود أسماكاً بها، أما المنطق الذى يطرحه مصطفى محمود هنا فهو أن تغوص فى البحيرة وتبحث إلى أن تجد أسماكاً ثم تقول إذن فهناك ماء ..

وإن كان الله ظاهراً على هذا النحو الجلى كما تقول، وهو حسب قولك أوضح من الكون نفسه، كيف إذن لم تره أنت نفسك طوال أربعين عاماً؟ ولماذا لايراه آخرون كثيرون إن كان هو على هذا النحو المذهل من الوضوح؟

وأنت حينما تقول أن الله ظاهر فى النظام والدقة والجمال والإحكام وفى ورقة الشجر وريشة الطاووس وترابط النجوم والكواكب وهذا القصيد السيمفونى الذى اسمه الكون .. ما قولك إذن فى فيروس السعار وطفيل الملاريا وشلل الأطفال والجدرى والسل والكساح، وما رأيك فى الفوضى فى هذا الكون الذى حسب ماعلمتنا أنت نفسك يتجه نحو الفناء والبعثرة فى الفضاء؟ وما قولك فى كم الذبح والقتل والترويع الجنونى الذى يحدث كل يوم على يد المؤمنين بإلهك الجميل الحكيم وتحت سمعه وبصره وربما أيضاً بأمره؟؟ هل الله أيضاً ظاهر لك فى كل ذلك؟ أهذا هو ماأراده إلهك المبدع لكونه ولخلقه؟

 

قصيدة شكسبير

 

ويستكمل مصطفى محمود قائلاً: “لو قلنا إن كل هذا جاء مصادفة .. لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة فى الهواء يمكن أن يؤدى إلى تجمعها تلقائياً على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر وبدون مؤلف ..”

وبالطبع فإن إلقاء حروف مطبعة فى الهواء لن يكون قصيدة لشكسبير، (أو أن تعبث الريح بساحة للخردة فإذا بها تكون طائرة بوينج ٧٤٧ كما يحلو للبعض أن يقول) .. إلا أن حدوث أو ظهور الأشياء فى الكون لايتم على هذا النحو بالمرة .. ولفهم ذلك يجب أن أعود إلى كتاب ريتشارد دوكنز القيم “تسلق جبل عدم الأرجحية – Climbing mount improbable”، وهو الذى يشرح فيه كيف أن أكثر الأشياء تعقيداً فى هذا الكون إنما تأتى للوجود من بدايات غاية فى البساطة، وهو يشرح ذلك فى براعة بأن يقول أن لنا أن نتخيل جبلاً ذا حافتين، حافة قائمة متعامدة على مستوى الأرض وحافة أخرى مائلة تدريجياً نحو السفح .. والمستحيل هنا أن يقفز كائن ما من جهة الحافة القائمة ليصل إلى قمة الجبل، أما الممكن هو أن يصعد المتسلق تدريجياً من جهة الحافة المائلة وفى هذه الحالة يصل إلى القمة شيئاً فشيئاً .. إن على هذا النحو تتكون الأشياء .. فمن بدايات غاية فى البساطة وعدم التعقيد يبدأ تكون أكثر الأشياء تعقيداً، فمثلاً نحن نعرف أن الحياة بدأت حينما تكون أول حمض أمينى فى الماء من بدايات شديدة البساطة، وعبر زمن سحيق تكونت الخلية الحية، ثم الكائنات الأولية أحادية الخلايا، ثم الكائنات متعددة الخلايا، وهكذا وعبر أزمنة سحيقة بدأ تكون الكائنات الأكثر تعقيداً إلى أن وصلنا إلى التنوع الأحيائى العظيم الذى نراه الآن .. وبالطبع تسأل، ومن كان خلف كل ذلك، أليس ذلك دليلاً على وجود الخالق (أو المصمم الذكى)، وما لاتلاحظه هنا، وكما قلت سابقاً، هو أن كل هذا الكائنات لهى بالضرورة أقل تعقيداً بمكان من الخالق الواع المدبر الذى تفرضه علينا، فأنت بذلك تفسر شيئاً معقداً بأن تفرض علينا ما هو أعقد منه ولا شك بملايين المرات – أو بما لانهاية من المرات، أليس كذلك؟

هذه هى فلسفة ريتشارد دوكينز ..

إن المشكلة التى تعوق فهمنا لمعظم تلك القضايا هى أننا نتوقع حدوث الأشياء فى لحظة واحدة، أو بطرقعة إصبع كائن تخيلى مهول، وبهذا نحل المشكلة فى بساطة وبكلمة واحدة، وما ينبغى علينا فهمه هنا أنه لاشىء فى الكون يتكون على هذا النحو، وإنما من بدايات متناهية البساطة يتكون ما هو متناهى التعقيد .. حتى الانفجار العظيم نفسه لم يحدث بطرقعة أصبع، أو من لاشىء، وسوف نناقش ذلك بالتفصيل فى أبواب قادمة ..

ويعنينى هنا أن أقول أننى لاأدعى معرفة الإجابة على كل سؤال، إلا أننى فى ارتحالى نحو المعرفة أرفض ما لايتفق مع المنطق وأقبل ما كان منطقياً، وأنا لاأقول أننا مصيرنا أن نصل حتماً إلى إجابة واضحة قاطعة على كل شىء، ولكن ماأقوله هنا هو أننا لايجب أن نتوقف عن محاولة الفهم، وألا نتوقف لنلقى بالقضية برمتها إلى كائن خارق خفى مهمته صنع كل شىء (وتدمير كل شىء أيضاً) .. وصحيح أننا لانعلم من أين أتت أو كيف نشأت قوانين الطبيعة .. ولكن بإمكاننا أن ندرس كيف تعمل تلك الطبيعة .. أما حينما تصر على أنك الوحيد العالم بالإجابة، وأن الإجابة هى “الخالق” أو على وجه التحديد “المصمم الذكى” أو “الإله”، ثم تعطى لذلك الخالق إسماً أياً كان هذا الإسم، فلى أن أطلب منك أن تعطينى الدليل الواضح الذى أدى بك إلى الاعتقاد فى ذلك ..

إن هذه الإجابة السهلة التى تحل بها كل المشاكل المستعصية هى هروب من محاولة الفهم وسبر الأغوار والعمل الدؤوب الصعب للوصول إلى أكثر الحلول منطقية .. إنك حينما تجيبنى على كل هذه الأسئلة بكلمة واحدة وتقول: الخالق، فإنك تكون قد اختزلت جميع العلوم البشرية من بيولوجى وكيمياء وفيزياء وجميع معادلات الطاقة والمعادلات الكهرومغناطيسية وآلاف المراجع العلمية والرياضيات المتقدمة إلى ثلاثة أحرف فقط: ألف ولام وهاء، أو “G” و “O” و “D”، فقط هكذا .. إلا أن الأمر أعقد من ذلك بكثير ..

  • ● ● ● ●

ويتسائل الصديق الملحد عن كون الإله واحد أم كثيرين، وفى الحقيقة فإن هذه القضية لاتعنينى كثيراً، إلا أن الدكتور مصطفى محمود فى معرض رده على هذا السؤال أثار نقطة يهمنى أن أعلق عليها، وذلك عندما يقول “ولماذا يتعدد الكامل؟ إنما يتعدد الناقصون ..”

جميل ..

وبنفس المنطق يحق لنا أن نسأل: ولماذا يغضب الكامل؟

ولماذا يعذب الكامل؟

ولماذا ينتقم؟

ولماذا يصنع كائناتاً صغيرة على صورته لكى تعبده، وإن لم تفعل فهو لحارقها؟ ألا يتنافى ذلك مع صفة الكمال؟

ولماذا يجعلنا أمماً مختلفة الألسنة ثم يرسل كلمته الأخيرة الجامعة المانعة الكاملة التامة بلغة واحدة فقط وليس بلغات جميع مخلوقاته؟

ولماذا يتركنا لكل هذا الجدل والعراك وهو تام وكامل وجميل يحب الجمال؟

سؤال يهمنى أن أجد إجابة عليه ..

  • ● ● ● ●

وأخيراً يتسائل الصديق الملحد ويقول “أليس عجيباً ذلك الرب الذى يتدخل فى كل صغيرة وكبيرة، فيأخذ بناصية الدابة، ويوحى إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها .. وإذا سقطت ذبابة فى طعام فهو الذى أسقطها .. وإذا تعطلت الحرارة فى تليفون فهو الذى عطلها .. ألا تشغلون إلهكم بالكثير التافه من الأمور بهذا الفهم؟”

ويرد مصطفى محمود بقوله: “ولا أفهم أيكون الرب فى نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه المسئوليات وأخذ إجازة وأدار ظهره للكون الذى خلقه وتركه يأكل بعضه بعضاً! هل الرب الجدير فى نظره هو رب عاطل مغمى عليه لايسمع ولا يرى ولا يستجيب ولا يعتنى بمخلوقاته؟ .. إنما الإله الجدير بالألوهية هنا هو الإله الذى أحاط بكل شىء علماً .. الإله السميع المجيب، المعتنى بمخلوقاته ..”

جميل ..

ولى هنا أن أتسائل أنا أيضاً، أى اعتناء ذلك الذى تتحدث عنه يا دكتور؟

إن الحياة من أولها لآخرها كبد ومعاناة وعناء، ولولا بذل الجهد والتعب والخطأ والمحاولة وإعادة المحاولة مرة ومرات لما تقدمت البشرية ولما عرفنا مصلاً ولا دواءاً ..

إن الكون بالفعل يأكل بعضه بعضاً، لقد علمتنا ذلك أنت نفسك ياأستاذى الكبير .. الشمس يحترق وقودها ومصيرها إلى فناء .. الكون يتمدد بسرعة تفوق سرعة الضوء والنهاية إما أن يتبعثر فى الفضاء أو أن تتغلب الجاذبية فيعود وينكمش إلى قبضة متناهية الصغر كما كان وقت الانفجار العظيم .. الثقب الأسود يبتلع النجوم والحديد يأكله الصدأ والموت بداخلنا نحمله معنا منذ ولادتنا .. هذا كلامك وهذا ما تعلمته منك .. وهو كلام صحيح ..

إن أى كائن لكى يعيش يجب له أن يقتل كائناً آخر .. فكر فى كم الكائنات الحية التى قتلتها أنت لتتغذى عليها كى تعيش، فكر فى عدد البشر الذين ماتوا وضحوا بحياتهم وأغلى ما عندهم لكى تعيش .. فكر فى العلماء والمفكرين الذين أفنوا حياتهم لاكتشاف مصل أو دواء أو لقاح، وكيف أنقذ هؤلاء ملايين البشر من الفناء ..

ولو كان الله معتنياً بمخلوقاته بالفعل لخلقهم ومعهم هذه الأمصال، أو لقضى على الميكروبات بكلمة واحدة، فكما قال للإنسان (كن) فكان، إذن هو بإمكانه أن يقول لكل هذه الميكروبات والجراثيم والأمراض والمفترسات (لا تكونوا) فلا يكونوا! هل تقول لى أن الإله المعتنى بمخلوقاته قد أمضى ٢٠٠ ألف سنة ينظر إلينا من عليائه إذ تحصدنا الأمراض إلى أن أتى باستير وكوخ وفلمنج بالتعقيم والبسترة والبنسلين فإذا بنا قادرين على إنقاذ الملايين ..؟

وإننا إن تصورنا أن الحرارة إذا تعطلت فى تليفون فلابد أن الله هو الذى عطلها بدلاً من أن نبحث عن السبب الحقيقى والذى هو غالباً ما يكون الإهمال والتسيب فى بلادنا السعيدة فذلك معناه أننا لازلنا نعيش فى غياهب عصور ما قبل التاريخ ..

إننا إن تصورنا أن هناك كائناً فوقنا يعتنى بنا ويلبى لنا احتياجاتنا ويتدخل فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتنا فإننا فى وهم ولاشك مبين ..

هل تقول لى أن الله يجلس الآن مرخياً قدميه على سحابة ما فوقنا، ويطل بنظره على طفل فى الثانية من عمره أصابه هو بثقب فى القلب .. وينظر إلى معاناته ومعاناة والديه، ويعلم أن هذا الطفل سوف يحيا ما تبقى له من سنوات فى معاناة إلى أن يموت ولايفعل شيئاً سوى الفرجة؟ هل هذا هو الإله السميع المجيب المعتنى بمخلوقاته الذى تحدثنى عنه؟ وهل تقول لى أن هذا هو ما دأب على فعله كل يوم منذ أن خلق البشر إلى إن قرر ذات صباح أن يعطينا من علمه ما حجبه عنا لآلاف السنين، فإذا بنا قادرين على علاج مثل هذه الأمراض؟

إن أصعب درس علينا أن نتعلمه نحن بنى البشر هو أنه ما من أحد يجلس فوقنا يعنيه أمرنا بالمرة ..

وما أن قبلنا هذا التحدى نكون بذلك قد خطونا أول خطوة فى فهم هذا الكون وعلى أى نحو يدور

شارك المحتوي مع اصدقائك